كيف تنتهي الرقابة على كلماتنا في براح الانترنت؟
مع بدء الحرب على غزة والتحيز الواضح لخوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي لمصلحة الصهاينة حيث يتواصل حجب المحتوى المناصر لفلسطين بشتى الطرق سواء بإغلاق الحسابات بشكل مباشر أو بتخبئة محتوى تلك الحسابات وعدم إظهاره سوى لعدد قليل من المستخدمين، عاد السؤال الموسمي والإجابات المتعددة له عن متى وكيف نهرب من تلك الرقابة. من الكتابة بالعربية دون حروف، تقطيع الكلمات المفتاحية التي قد يسبب وجودها الحجب، إدخال رموز وفصلات بين الحروف، وغيرها من الحيل يستخدمها رواد مواقع التواصل الاجتماعي بشكل بديهي الآن للهروب من الرقابة، ولكن هل سيستمر نجاح تلك الحيل لوقت طويل؟ أم أن الدائرة سوف تظل تضيق مع الوقت؟ ما الذي أوصلنا إلى تلك الحالة من الخوف من الرقيب ونحن نعيش حياة رقمية كانت تفترض أن يكون براحها يتسع لكل البشر؟
في البدء كانت المدونات
منذ قرابة العشرين سنة ظهرت "المدونات"، كانت المدونات تمثل نقلة تقنية كبيرة حيث أتاحت منصات التدوين المجانية مساحة لغير التقنيين للكتابة ومشاركة آرائهم دون الحاجة لتعلم كيفية برمجة وإنشاء موقع على الانترنت. قبل ظهور منصات التدوين كان يتعين على من يريد استغلال الانترنت للكتابة ومشاركة الأفكار أن يتعلم العديد من المهارات التقنية التي في ذلك الوقت لم تكن ذات أهمية لغير مهاوويس التكنولوجيا أمثالي.
ظهر في العالم كله موجة من الكتاب الهواة (المدونين) في كل المجالات ولكن كانت تلك المدونات عبارة عن جزر مستقلة غير مترابطة حتى ظهرت تقنية ربط تلك المدونات في مواقع مجمعة لتلك المدونات، في مصر كان مجمع المدونات الأشهر هو manalaa الذي قام على برمجته وصيانته علاء عبدالفتاح ومنال حسن. لست في موقع يسمح لي بشرح سياسة علاء ومنال في جمع المدونات وكيف كان إيمانهم بحرية التعبير يؤثر على ما يسمح بالتواجد به في مجمع المدونات هذا ولكن بشكل نظري كان لدى علاء القدرة على إلغاء وجود أي مدونة من المجمع هذا، حتى في أكثر الأوقات حرية على الانترنت كانت الرقابة متواجدة بشكل أو بآخر أو على الأقل كانت القدرة على الرقابة موجودة. من يتحكم في مجمع المدونات لديه القدرة على الحد من إيصال المحتوى لعدد أكبر أو أقل من الناس، فكانت جووجل مثلا تقوم بمراقبة بدائية على منصتها للتدوين وتقوم بإغلاق المدونات على منصتها (بلوجر) أحيانا بسبب محتوى تلك المدونات.
كنت في ذلك الوقت (ومازلت) أعرف نفسي بأني شخص سليط اللسان وأفضل لغة "الشوارعية" للتعبير عن أفكاري ولذلك فضلت أن أقوم ببناء مدونتي الخاصة لتجنب الحظر على أي منصة تدوين عربية أو أجنبية بعد عدة شجارات على الانترنت بسبب لغة المحتوى الذي كنت أكتبه (وبالتأكيد لاستعراض عضلاتي التقنية وقدرتي على البرمجة كأي مراهق مهووس بالتكنولوجيا). لم يكن التدوين في ذلك الوقت شديد الاختلاف عن الكتابة على منصات التواصل الاجتماعي الآن. بالطبع لكل وسيط أحكامه وتأثيره على المحتوى ولكن نوع المحتوى نفسه ليس شديد التنوع أو الاختلاف عن "البوستات" الآن على فيسبوك، إذا لماذا اختفت المدونات من حياتنا تقريبا وكيف استبدلنا الرقابة في مجمعات المدونات اللامركزية إلى رقابة شركتين أو ثلاثة تتحكم في كل المحتوى على الانترنت تقريبا، ميتا، إكس، وتيك توك؟
الكلمة المفتاحية هنا هي "التواصل". بالرغم من أن المدونات أتاحت سهولة الكتابة والنشر على الانترنت فإنها لم توجد حلول تقنية سهلة الاستخدام لمشاركة المحتوى في دوائر مجتمعية مختلفة. إذا قرأت تدوينة ما وأردت مشاركتها مع كل أصدقائي لأنها تمثل وجهة نظر ما أتبناها فيجب علي أن أقوم بنسخ عنوان التدوينة، الذهاب إلى بريدي الإلكتروني، إرسال إيميل إلى كل قائمة عناويني بها إما موقع التدوينة أو محتواها. مع العلم أن معظم أفراد عائلتي في الغالب ليس لديهم بريد إلكتروني من الأصل.
أما الآن إذا أردت نشر دعوة للتبرع لإنقاذ غزة فكل ما علي فعله الضغط على زر المشاركة على فيسبوك أو تويتر وستقوم الخوارزمية على منصة التواصل الاجتماعي بإيصال البوست إلى أكبر عدد ممكن من أصدقائي أو متابعيني.
هناك أيضا طموح ال "Viral Post". الطموح في أن يصل المحتوى الذي أقوم بكتابته لأعداد ضخمة أكبر من دوائري الاجتماعية بكثير وهو الأصعب بالتأكيد في المدونات. وضعتنا هذه الأسباب في نقطة اللاعودة (على الأقل الآن) من حيث مركزية السيطرة على المحتوى وكيفية نشره للجماهير.
هل هناك بدائل؟
ليس ما تقوم بتوفيره منصات التواصل الاجتماعي سرا حربيا يصعب صناعة بدائل له، فقد قام الكثير من مطوري البرمجيات ونشطاء البرمجيات الحرة المهتمين بحرية الرأي على الانترنت ببناء العديد من المنصات البديلة لتوفير مساحة حرية أوسع وللهروب من مركزية التحكم في معايير الخطاب المسموح به. لكن كعادتنا مهاوييس التكنولوجيا والبرمجيات الحرة فبالطبع لم يكن سؤال سهولة الاستخدام أو الانتقال من المنصات المركزية إلى المنصات البديلة رئيسيا.
مازال الانتقال إلى تلك المنصات ليس بسهولة تحميل تطبيق فيسبوك على الهاتف والأهم من ذلك أن الانتقال الفردي لهذه المنصات لن يجلب معه انتقال كامل للشبكات الاجتماعية التي تكونت عبر سنوات طويلة على المنصات التاريخية، لدي على تويتر أكثر من عشرين ألف متابع، لن ينتقلوا لمتابعتي إذا توقفت عن استخدام تويتر واستبدلته ب Mastodon أو Friendica. مجرد الانتقال معناه خسارة رأس المال الاجتماعي "الرقمي" والبدء من الصفر
إن لم يمكن شرح فائدة المنصات البديلة وكيفية الانتقال إليها لطفل في الثامنة فلن تنجح فكرة الهروب من سيطرة ميتا على المحتوى وعلى العلاقات الاجتماعية القائمة بالفعل لديها.
غرف الصدى Echo Chambers
أحد أكثر الأعراض الجانبية سوءا لشبكات التواصل الاجتماعي هي غرف الصدى Echo Chambers التي تنتج عن خوارزميات ترشيح المحتوى، أنت مهتم بالخرافات؟ حسنا، سوف نملئ التايم لاين بمحتوى عن الخرافات وسوف نتجنب أن نعرض لك أي محتوى يدحض تلك الخرافات. هل أبديت اهتماما بالعلم؟ سوف نرشح لك دائما محتوى علمي يعجبك ويزيد من تفاعلك. أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي بسبب تلك الظاهرة تخلق مجتمعات مغلقة على نفسها وهي الأزمة الكبرى الآن مما لها من تأثيرات سلبية كبرى، ولكن بالرغم من سيطرة الخوارزميات تلك مازال هناك فرصة للالتقاء بين تلك المجتمعات المغلقة عن طريق التشبيكات الاجتماعية الواقعية. سيظل ابن خالتك المؤمن بأن الأرض مسطحة متصلا معك على الفيسبوك وقد يصله عن طريق تلك الصلة منشورا يخالف معتقداته. ما هي فرص الإبقاء على تلك الصلات إذا ما انتقل كل منا إلى دائرة اجتماعية مغلقة بطبيعة تصميمها على إحدى شبكات التواصل الاجتماعية البديلة الغير مركزية؟ هل سيستطيع الأكثرية من الناس تغليب الصالح العام وتقبل الأشخاص المختلفين عنهم فيقوموا بدعوتهم إلى دوائرهم المغلقة الجديدة؟ أم أن جدران غرف الصدى سوف تصبح أشد صلابة؟
كيف انتقل المصريون إلى تيليجرام؟
مصر من أكثر عشر دول في العالم استخداما لتطبيق تيليجرام، وصل عدد المستخدمين الفاعلين للتطبيق أكثر من أربعة عشر مليون مستخدم من مصر. أزعم أن هذا العدد الضخم من المستخدمين لم يبدأ في استخدام تيليجرام من أجل الحفاظ على الخصوصية واستخدام التشفير وهي خصائص حتى واتساب يدعمها الآن بل ونسبة الأمن الرقمي متساوية تقريبا بين الاثنين. السبب الأول لاستخدام هذه الأعداد الكبيرة لتليجرام هو للوصول إلى محتوى مقرصن للأفلام، المسلسلات، وحتى الكتب.
وبالرغم من عدم وجود هذه المواد على واتساب فقد مازال العدد الأكبر من المستخدمين في مصر يعتمدون على واتساب حيث عدد المستخدمين المصريين هو قرابة الضعف لمستخدمين تيليجرام.
بالرغم من أن سهولة الاستخدام متقاربة بين التطبيقات وسهولة الانتقال لها لن يكون تحويل وجهة المستخدين إلى منصات أخرى عملية سهلة إن لم يكن عملية الانتقال ونقل المحتوى ورأس المال الاجتماعي المتمثل في عدد المتابعين وشبكات العلاقات الافتراضية مباشر وله فائدة لحظية للمستخدمين وإلا ستفشل التجربة كما فشلت تجربة شركة Meta مع البديل الذي طرحته لمنصة تويتر فبالرغم من أن منصة ثريدز سجلت حسابات تلقائية لكل مستخدمين انستاجرام إلا أن التفاعل على المنصة انخفض تماما بمجرد مرور بضعة أيام على الحملة الدعائية للمنصة الجديدة.
الحل هو في المنصات الوسيطة حيث يمكن للمستخدمين إبقاء حساباتهم على المنصات الاحتكارية ذات المعايير رديئة السمعة وفي نفس الوقت نشر محتواهم الرقمي على كل المنصات. بدلا من الانتقال فجأة إلى ماستودون أو غيره سوف يمكن لصناع المحتوى الانتقال تدريجيا عن طريق استخدام منصات وسيطة تقوم بتوزيع محتواهم بين جميع المنصات، إما ذلك أو أن نظل نحلم بالعودة بالزمن إلى المدونات والصفحات الشخصية.
التعليقات