عن الهوية، نحن وهم وإلى أين المفر
منذ بضع سنوات في واحدة من النوبات الموسمية للتفكير في الرحيل عن القاهرة أجريت بعض مقابلات العمل في شركات ألمانية قد تتيح لي الانتقال إلى برلين، في واحدة من تلك المقابلات كان مديري المحتمل رجل ألماني أبيض مطلع بعض الشئ على العالم وهو شئ غريب على أغلب العاملين في سوق التكنولوجيا، أنهينا مقابلة العمل وتطرقنا بعد ذلك إلى حياة كل منا الشخصية، بعد ذلك انتبهت أن ذلك النقاش عن الاقتصاد والسياسة والهوايات كان مدخلا ليسأل السؤال الذي باغتني به، هل لديك مشكلة في العمل مع زملاء عمل إسرائيليين؟
من الواضح أن تنميطه للشخص العربي "المسلم" وعدم تقبله للاسرائيليين غير متماشي مع الصوابية السياسية. اعتذر عندما لاحظ ترددي في الإجابة وربما كان ذلك التردد هو أحد أسباب عدم قبولي في الوظيفة في نهاية المطاف. تذكرت تلك المقابلة وعدم قدرتي على الإجابة وأنا أفكر في الاطمئنان على أصدقائي المقيمين في بعض البلدان الأوروبية منذ بداية طوفان الأقصى. كيف أصبح الكلام قد يؤخذ إلى المحكمة في بعض واحات الحرية الأوروبية التي لجأ لها الكثير من الأصدقاء حتى يستمتعوا برفاهية الكلام، مجرد الكلام.
"أنا مسافر علشان محدش يوقفني في الشارع يقول لي افتح موبايلك ووريني الفيسبوك"
في معرض تهكمه من الحلم الأمريكي، سخر جورج كارلن من أسطورة الحقوق التي ينعم بها مواطنوا أمريكا، أنها ليست حقوقا أعطاها لهم الرب وإنما مجرد امتيازات يمكن أن تختفي في أي لحظة وقد كان، تعرض أصدقاء كثر لمضايقات في أعمالهم وصلت لحد الفصل من العمل بسبب منشور على فيسبوك أو لمجرد مسيرهم في شوارع أوروبا وهم يرتدون الحطة الفلسطينية، ربما حاول أحد ظباط شرطة برلين التذاكي على أحد من المهاجرين ليجعله يفتح هاتفه أو فيسبوك (كما فعلت الشرطة الروسية أثناء التظاهرات المناهضة لحرب أوكرانيا)
لست بالسذاجة لكي أبسط الحالة العامة لتقسيم هم ونحن كما يسيل لعاب الإسلاميين في مثل تلك الأيام، لن أتجاهل نضالات رفاق من كل الأديان والأعراق لحريتنا وحريتهم في كل مكان ولكني أجد نفسي مجبرا على العودة دائما للفرق في الامتيازات ومتى سيفقدها المرء منا أينما كان وتحت أي ظرف. في اللحظة التي يجبر كل منهم على بدأ كلامه بالتأكيد على أن حماس تنظيم إرهابي قبل أن يسمح له بامتياز الكلام عن مأساة الشعب الفلسطيني، يمكنني هنا في مصر أن أكتب بأريحية "حط السيف قبال السيف، إحنا رجال محمد ضيف" أو أن أمزح بأن السنوار رفيق ماركسي متخف سيعلن في اللحظة المناسبة ماركسيته أمام حماس والعالم.
في الوقت نفسه سوف أفكر أكثر من مرة قبل أن أكتب نقدا للسلطة الحاكمة في مصر، بينما يستطيعوا هم مواجهة المستشار الألماني ووصفه بالقاتل دون أن يتعرضوا للاعتقال.
العربي القابض على ماركسيته اليوم كالقابض على الجمر
في لحظات الكرب العظيم مثل التي نعيشها الآن عادة ما نجد ردة الكثيرين إلى هويات آمنة، توفر لهم الوضوح الذي نحتاجه بقدر احتياجنا للأمان والأمل. ربما كانت تلك الردة الآن ليست لمجرد الإحساس بالوضوح بل للعودة إلى حاضنة الانتماء المجتمعي الأول، وفي حالة من يعيشون في الشتات فالحاجة لذلك الاحتضان أكبر وأشد في لحظة تعبر لهم حضارات "الآخرين" عن احتقارها لحياتهم وحياة من على شاكلتهم.
أجد نفسي الآن بالرغم من الأعوام الماضية في مصر أحمد الله على ترددي في الإجابة على سؤال الرجل الألماني الأبيض عن العمل مع إسرائيليين، وأعتقد أنني لن أستطيع أبدا الإجابة عليه سوى بالرفض القاطع، كما يطلب منا اليوم إدانة المقاومة قبل البسملة، أعتقد أنني لن أستطيع التعامل مع أوروبي قبل أن يدين إسرائيل. هل سيستمر هذا القبح كثيرا حتى بعد الحرب؟ هل هناك أمل في التئام ذلك الجرح أيا كانت نتائج المجزرة أصلا؟
التعليقات